حياٌة أدبًا "الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع" ألشَّريف-ناجي نعمان (لبنان)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 

حياٌة أدبًا
"الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع"
ألشَّريف

  ناجي نعمان    

ألتسْعَةُ الأُولى
* إِنْصَدَعَ الفَجْرُ في اللاَّزمان واللاَّمكان(1)، ووَسْطَ الزَّمَكان(2)، فقامَ السَّحَرُ الأدنى يُرافِقُ انبِثاقَ الشَّريفِ من حَشا(3) اللَّذَّة والآلام، رَضيعًا يُطِلُّ على المَجهول.
* جاءَ الشّريفُ الكَونَ يومَ التِّسْتِ(4) الواقعُ فيه السَّادسُ والثَّلاثونَ من فصل الزُّهور(5) من العام الرَّابعِ والخَمسينَ للبُركان(6).
* وكانَتِ الأمطارُ، في ذلك العام، قد حُبِسَتْ طويلاً، حتَّى إنَّ الأزهارَ، في فصلها، لم تَكُنْ قَد بَرْعَمَتْ؛ وانْهَلَّتِ السَّماءُ بالمطر، لَحظتَها، فعَزَفَتِ الطَّبيعةُ، طَيرًا وشَجَرًا، لحنَ الحَياة، وفَرِحَ الأتباعُ ببُشرى الشَّريفِ الوَليد، وسَعِدوا.
* وكأنَّ الطَّبيعةَ أَنْعَمَتْ على الشَّريفِ بما مَنعَتْه عن كثيرينَ من قُرَنائه، فتَرَبَّى في رَغَدٍ من العَيش وفي خَيرِ الأَشرافِ حَشًا(7)، وجَمَعَ أهلُه العِلمَ إلى مَكارمِ الأخلاق، فعَرَفَ طفولةً هَنيئةً، ونَشَأَ على الفَضائل.
* واتَّصَلَ الشَّريفُ، صَغيرًا، بالطَّبيعة، فتَفاعَلا، وجاءَتْ طُفولتُه في بيئةٍ نِصْفِ حَضَريَّة، مُسالِمة، ما زالَ للمُرُوءَة والشَّجاعة والفُرُوسيَّة، فيها، مَكانٌ، وفي منطقةٍ لم تُعْمِلْ يَدُ الإنسان المعاصِر فيها، بعدُ، هَدْمًا، بل لَفَّها الجَمالُ، سَهلاً وجِبالاً.
* وأَحَبَّ الشَّريفُ، إلى الطَّبيعة، ناسَهُ، جميعًا، إذْ لم يكُنِ البُغضُ، بَعدُ، قد خالَجَه، أو القَلقُ تَمَكَّنَ منه؛ ولعلَّه أَخَصَّ بحبِّه، إلى والدته، طِفلةَ أحد أتباع والده، حنانَ، وكان اعْتادَ إلعابَها على إلعاب أطفال حاشية البَلاط.
* واخْتارَ الشَّريفُ، منذُ نُعومة أَظْفاره، صَوْمَعَةً على تلَّةٍ تُشْرِفُ على عاصمة أبيه، يَهْجَعُ إليها للابتِعاد عن بَني جِنسه، والتأمُّلِ في الكَون والطَّبيعة، وأسرارِهما.
* وكانَتْ للشَّريفِ مَوهبةٌ ستَسْتَمِرُّ في تِسْعاته التِّسْع قِيلَ إنَّها في قَرْضِ الشِّعر، والحقيقةُ أنَّه سيُردِّدُ دَومًا أنَّه كانَ يَشْعُرُ ولم يَكُنْ بشاعِر، تمامًا كما كانَ يُفَكِّرُ ولم يَكُنْ بمُفكِّر، ويَنْقُلُ شِعرَه وفِكرَه صُوَرًا على الوَرَق ولم يَكُنْ برَسَّام.
* ولَسوفَ يَتَّجِهُ شعورُ الشَّريفِ، كما تَفكيرُه، وطَوالَ حَياته، صَوْبَ الإنسان، فهو الغايةُ من هذا الكَون، ولَولا هوَ، لا مُبرِّرَ للحَياة.

ألتسْعَةُ الثانِيَة
* لَئِن عاشَ الشَّريفُ طفولتَه في هَناءٍ وسعادة، فإنَّه لَمْ يَعِ معنى هذا الهَناء وتلك السَّعادة، إلاَّ بعدَما خَسِرَهما غَداةَ ذِكرى وِلادته التَّاسعة، وإثرَ هَجمةٍ وَحشيَّةٍ غادِرة، شَنَّها جيرانٌ جاهلونَ طامعون، يُسانِدُهم بعضُ خَوَنَةٍ من الدَّاخل، ما إنْ فَتَحوا للغادرينَ أبوابَ العاصمة حتَّى زُهِقَتْ أرواحُهم.
* أُغْتِيلَ المَلِكُ في فِراشه ولمَّا يُدْرِكْ ما حَصَل، وانْتَحَرَتِ المَلِكَةُ حُزنًا وهَرَبًا من سَبْيٍ أو إكراهٍ على اقتِرانٍ لاحِقٍ يُعْطي المُغتَصِبَ شرعيَّةً؛ وأمَّا الأتباعُ فاسْتَماتَ بعضُهم في الدِّفاع عن أرض الجُدود، وإنَّما، عَبَثًا.
* وأُنْقِذَ الشَّريفُ، في شِبه أُعجوبة، من بَراثِن المَوْت، إذْ هَرَبَ به أتباعٌ، وما زالوا إلى حين وَجَدوا الأمانَ، وإنْ بعيدًا عن وادي بلاد الأشراف الأخضر.
* أَفْقَدَتِ الهَجمةُ الشَّريفَ، وهوَ بَعْدُ طَريَّ العود، عَطفَ أمٍّ ورِعايةَ أبٍ، وأَوْرَثَتْه قضيَّةَ شعبٍ ووَطَن، فانْتَقَلَ قَسْرًا، هناك، في تلك الجبال الوَعِرَة القاسية الَّتي حَمَتْه وناسَه، إلى الرُّجولة المُبكِرَة، مواجِهًا التَّهجيرَ وشَظَفَ العَيْش، كما نُمُوَّ الحِقْد في صُدور بَني قَومه، وراحَتْ سِماتُ صَلابة الصَّخر تَكْسوه كما خُضْرَةُ السُّهوب، بالأمسِ، لَيَّنَتْه.
* وما إنْ أَتمَّ الشَّريفُ الرَّابعةَ عَشْرَةَ من العمر حتَّى سُلِّمَ، وبحَسَب الأَعراف، شوؤنَ قَومه، فغَدَتِ الطُّفولةُ، بالنِّسبة إليه، مُجرَّدَ ذِكرًى، فيما الشَّبابُ مرحلةٌ لن يَعْرِفَها.
* واسْتَمدَّ الشَّريفُ الحِكمةَ من الطَّبيعة، إذْ لَطالَما تَفاعَلا، فأَحْسَنَ، إلى حَدٍّ بَعيد، إدارةَ شؤون عِباده، مُتَحَمِّلاً، هو الفَتِيُّ اليَتيم، مسوؤليَّةَ شعبٍ جُلُّ ما يَتَمَنَّاه انتِقامٌ من غاصِبٍ، وعودةٌ إلى أرضٍ، وتحريرٌ لِما بقيَ من شعب.
* ولَئِنْ كانَ الشَّريفُ يُدْرِكُ أنَّ الأرضَ للجَميع، وأنَّ الخِلافاتِ بينَ البَشَر إنَّما هي لِطَمَعِهم في اقتِسامها وخَيراتِها، فقد قَرَّ - وحالُ الدُّنيا على ما هي عليه - على الأخذ بمُطالبة أتباعه استردادَ الأرض السَّليب بقوَّة السَّاعد والحُسام.
* وأمَّا الشَّريفُ، فكانَ يَحِنُّ، بينَ الحين والحين، إلى طُفولته، مَلعَبِ خَياله، وإلى مَملكته حيثُ تَرَكَ، في ما تَرَك، حُبًّا قد غَدا سجينَ المُغتَصِب.
* وأمَّا الشَّريفُ، فكانَ، إلى ذلك، يُمَنِّي النَّفْسَ بالعودة إلى صَوْمَعَته، حبيبتِه الأزَبَدِيَّة(8)، حيثُ يَحْلو له الالتقاءُ مع نَفسه.

ألتسْعَةُ الثالِثَة
* لَمْ يَجِدِ الشَّريفُ مَفَرًّا من تَحرير مَملكته، أرضًا وناسًا: فالاحتِلالُ دَخَلَ عامَه التَّاسع، وأتباعُ الخارج المُتحمِّسون، والدَّاخلِ المُتَخَفَّون، بَدَأوا يَتَمَلْمَلون، فيما شعبُ المَملكة، المُذعِنُ لنِير المُستَعمِر، دَخَلَ اليأسُ نفسَه.
* وأَيْقَنَ الشَّريفُ أنَّ المَعركةَ دونَها تَضحياتٌ: فالمُحرِّرون من أبناء قَومه، وكذلك المُحرَّرون، فيما ساحةُ المَعركة أرضُ أجداده؛ بَيْدَ أنَّه، وتحتَ وَطْأة عامل الزَّمن، رَأَى المَعركةَ آتيةً لا مَحالةَ، ونِعْمَ التَّضحيات!
* واخْتارَ الشَّريفُ مَطلِعَ العام البُركانيِّ لبَدءِ مَعركة التَّحرير بحَيثُ يَغْدو هذا التَّاريخ، ليسَ فقط تاريخَ دِفاع الطَّبيعة عن المَملكة بدَحْرِ البُركانِ أعداءَها، بَلْ، أيضًا، تاريخَ تَحرير الأرض ونَيْل الاستِقلال بالاستِحقاق.
* وأَشْرَقَتْ شمسُ العام البُركانيّ، فانْطَلَقَتْ شراذِمُ الشَّريفِ، وبحَسَب ما خُطِّطَ لها، للاستيلاء على مراكز العدوِّ المتقدِّمةِ وفتحِ أبوابِ المَملكة السَّبعة، تَحَرَّكَتْ بَعدَها الكتائبُ، فُرسانًا ومشاةً، لتحرير النُّفوس والمُقدَّسات.

* واحْتَدَمَتِ المَعركةُ بعدَما أَفاقَ المُغتصِبُ من سُباتِه، فسالَ دمٌ غَزير، وعَمَّ الخَرابُ أرضَ الوادي الأخضر؛ وإذِ اقْتَرَبَ الشَّريفُ - مُمتَطِيًا جوادَهُ، ويُرافِقُه رَهطٌ من رجاله - مِن قَصر والده، عاجَلَه رجالُ مَن نَصَّبَ نَفسَه مَلِكًا على الأحرار بوابلٍ من السِّهام، فأُصِيبَ في صدره إصاباتٍ قاتلةً.
* ولَكَمْ كانَتْ دَهشةُ الأتباع والأعداء عظيمةً عندَما تابَعَ الشَّريفُ المَعركةَ حتَّى النَّصر المُبين والسِّهامُ، هيَ هيَ، لم تَنَلْ لا منه ولا من اندِفاعه؛ وما هي سِوى ساعاتٍ انْتَهَتْ بعدَها المَعركةُ، وتَحَرَّرَتِ الأرضُ، وطورِدَتْ فُلولُ المُعتَدين.

* غَدا الشَّريفُ، بعدَ تلك الواقِعة، أسطورةً وأكثر. وعَبَثاً دَحَضَ "مُعجِزةَ" السِّهام، موضِحًا أنَّ ما حَماهُ إنَّما كتابٌ عزيزٌ على قلبه وَضَعَه والدُه المَلِك في تاريخ أرض الماءِ والكَلأِ، وقد أَوْدَعَه صدرَه إيمانًا منه بهذا التَّاريخ، فإصرارُ الأتباع وخيالُهم الجامِحُ جَعَلاهُ يَتَخَلَّى عن الحَقيقة، بالإضافة إلى أنَّ ناسَه كانوا في أمَسِّ الحاجة إلى البُطولات، وأمامَهم مِن غَسْل الدِّماء وبناء الحَجَر ما قد يَعْجُزُ عنه بَشَر.

* ثلاثةُ أمورٍ سَأَلَ عنها الشَّريفُ بُعيدَ التَّحرير: الوقوفُ على ضَريحَي الوالدَين، ولقاءُ حبيبة الطُّفولة، والانكفاءُ إلى الصَّوْمَعَة لبعض الوقت؛ وأمَّا ضَريحا والدَيه فذَكَّراه بتَضحياتِهما في سبيل شعبهما، وأمَّا حنانُ فذَكَّرَتْه بطفولةٍ انْفَرَطَ عِقْدُها، وأمَّا صَوْمَعَتُه فذَكَّرَتْه بأطيب لحظات حَياته؛ وهناك، أَطْرَقَ، واسْتَرْجَعَ ما كان، وقَدَّرَ ثمنَ التَّحرير.
* وتَسَلَّمَ الشَّريفُ - على طلبٍ من الأتباع يَدْعَمُه حقٌّ شَرعيٌّ وِراثيٌّ قلَّما آمَنَ به - شوؤنَ البِلاد والعِباد، فأَحْسَنَ الإدارةَ وسَعى لإِنْهاض مملكته من كَبْوتها، لكنَّه - بفِعل التَّهجير ومآسيه، والمَوْتِ الَّذي قارَبَ خلال مَعركة التَّحرير - غاصَ، بعدَ حين، على دُنيا المَلَذَّات، لا لشَيءٍ إلاَّ ليُثْبِتَ لنَفسِه أنَّه ما زالَ حيًّا.

ألتسْعَةُ الرَّابعَة
* إِنْهَمَكَ الشَّريفُ في مُمارسة الحُكم، وخَبِرَ أنواعَ المَلَذَّات. وقد نَجَحَ في سَعْيِه الأوَّل فعادَتِ المَملكة، بعدَ أقلَّ من عَقْدٍ، إلى ما كانَتْ عليه قُبَيلَ التَّهجير؛ كما حَقَّقَ، في سَعْيِه الثَّاني، ما يَصْبو إليه مَن تمتَّعَ بثَلاثةٍ: شبابٌ ومالٌ وسُلطان.
* وغابَ عن الشَّريفِ أنَّ مُمارسةَ السُّلطة إنَّما يَسْعى لها كثيرون، وخابَ فأْلُه مع سقوط مَقولتِه حَولَ الفِكَر الإنسانيَّة الحَقَّة الَّتي ظَنَّها تُسَيِّرُ العالم، واكتشافِه أنَّ صَغائِرَ الأمور النَّاجِمَة عن النَّفس الإنسانيَّة القَلِقَة والسَّقيمة، إنَّما تُنْتِجُ مَساراتٍ اقتصاديَّةً، فأُخرى سياسيَّةً واجتماعيَّة، تُفْضي بها إلى الكثير من الحِسْبان(9).
* كما غابَ عن الشَّريفِ أنَّ الشَّبابَ إلى زَوالٍ، وأنَّ الحَياةَ ليسَتْ فقط طموحًا إلى مالٍ وسُلطة، بَلِ استمرارٌ طبيعيٌّ وراحةٌ نَفسيَّةٌ يَجِدُها المَرْءُ في تَضحيةٍ يَتَقاسَمُها وشَريكةَ حَياتِه في سبيل أُسرةٍ يؤسِّسان.
* إِنْكَفَأَ الشَّريفُ إلى صَوْمَعَته حينًا، ثمَّ، وفي غَفْلَةٍ عن الجَميع، وفيما سُلطانُ المُلك في يدَيه، قامَ بالتَّخلِّي عن العَرش، وسَلَّمَ الحُكمَ مجلِسَين: واحدٌ للحُكماء، وآخرُ للسَّاسَة؛ ودَعا حَنانَ سائِلاً إيَّاها الزَّواجَ، فما تَمَنَّعتْ وإنْ هالَها ما كانَ من حَبيبها من حياةٍ صاخبةٍ، فالحُبُّ، في شَرعِها، هو الأبقى، هو الأسمى.
* وتَزَوَّجَ الشَّريفُ، وقد بَلَغَ السَّابعةَ والعِشرينَ من العمر، فانْتَقَلَ وحبَّه القديم المُتجدِّد إلى بيتٍ مُتواضِعٍ قريبٍ من صَوْمَعَته، تاركًا وراءَه سُلطةً ومالاً وجاهًا، ناظرًا في مُستقبَله كأيِّ  فَردٍ من أفراد مَملكته السَّابقة.
* ووَلَدَتْ حَنانُ طِفلةً فهامَ بها أبوها؛ وما إنْ دَبَّتِ الطِّفلةُ حتَّى حَمِلَتْ أمُّها مُجدَّدًا وأَخْرَجَتْ إلى النُّور طِفلاً بَهَرَ أباه؛ وما كادَ الأبُ يَسْبُرُ غَوْرَ ذَكاءِ بِكْرِهِ حتَّى كانَتْ حَنانُ قد أَعْطَتْهُ طِفلاً ثانيًا جَعَلَه يَعْشَقُ الأطفالَ، والطُّفولةَ.
* ونَمَتِ العائلةُ الصَّغيرةُ كما أَرادَ لها الشَّريفُ أنْ تَنْمُوَ: من الطَّبيعةِ وفيها ولها؛ وفيما كانَ الوالدُ يَهْتَمُّ بالأرض زَرْعًا، وببعض الماشية تَربيةً، كانَتِ الوالدةُ تَرْعى شوؤنَ بيتها، بَعْلاً وأولادًا.
* ولَئِنْ تَعِبَ الشَّريفُ وزوجُه وضَحَّيا في سبيل أولادهما، وغَلِبَتْ ساعاتُ جُهدهما وقَلَقِهما لحظاتِ راحتِهما، فإنَّ أويقاتِ السَّعادة التي كانا يَقْضِيانِ وأولادَهما كانَ من شأنها، وَحدَها، أنْ تَجْعَلَهما يَعْمَلان، كَدًّا وجِدًّا، ولأعوامٍ عديدة.
* بَيدَ أنَّ الشَّريفَ - وعلى الرَّغم من تَخصيص مُعظم وقته لعائلته - كانَ يُمثِّلُ، بين فَيْنَةٍ وأخرى، العَيْنَ السَّاهرةَ والأُذُنَ المُنصِتَةَ لما يَجْري ويَدورُ في البِلاد، وهوَ بَقِيَ، في الوادي الأخضر، عَينَ(10) قَومِه وأُذُنَهم(11).

ألتسْعَةُ الخامِسَة
* ما لَبِثَ مجلسُ السَّاسَة، في أرض الماءِ والكَلأِ، أنْ وَضَعَ مجلسَ الحُكماء جانِبًا وانْفَرَدَ بالحُكم؛ ولَمْ يَتَأَخَّرْ مجلسُ السَّاسَة نَفسُه في التَّحَوُّل مَطِيَّةً لرَئيسه الَّذي حَكَمَ فِعلاً، وتَحَكَّم.
* وكانَ أنْ طَمَحَ رَئيسُ المجلس في أنْ يَذْكُرَه التَّاريخُ على نَحوٍ يَنْسى أهلُ البلاد، معَه، شَريفَهم المُحَرِّرَ ومَلِيكَهم المُتَنازِلَ طَوْعًا عن العَرش، فجَعَلَ جُمهوريَّتَه الفَتِيَّةَ ثُكْنةً كبيرة، وهدفُهُ تَدجينُ داخلٍ وإرهابُ خارج.
* وما إنْ نَجَحَ الرَّئيسُ في ضَبْط جَبهته الدَّاخليَّة، ولو على حِساب حُرِّيَّة شَعبه، حتَّى فَتَحَ جبهةً خارجيَّةً مع جيرانه الأقرَبين، وانْتَصَرَ عليهم في سهولة.
* وانْتَشى الرَّئيسُ  بالغار يُكَلِّلُ هامَتَه، فراحَ يَتَوَسَّعُ في جميع الاتِّجاهات واصِلاً بلادَ الماءِ والكَلأِ بشواطِئ البِحار والمُحيطات، ولَو بهَدر الدِّماء وهَجر الهَناء.
* وتَحَوَّلَتِ الجمهوريَّةُ إمبراطوريَّةً، ورَئيسُ المجلس إمبراطورًا، ونَشِطَتِ التِّجارة، واكْتَسَبَ ناسُ الوادي الأخضر الوَفيرَ من الغِلال والأموال والأرِقَّاء، فعاشوا في ما ظَنُّوه نَعيمًا، ولَو عن طريق الغَصْب والاحتِلال والقَهر.
* وكانَ أنْ دَبَّ الفَسادُ في الإمبراطوريَّة، وتَفَرَّقَ رِفاقُ الأمسِ بين تيَّاراتٍ متخاصِمة، والهَدفُ الوصولُ إلى المراكز السياسيَّة والعسكريَّة ووَضْعُ اليَد على أكبر قَدْرٍ من الثَّروات، لا صَوْنُ الإمبراطوريَّة ورَخاءُ شُعوبها.
* ولَمْ يَتَأَخَّرِ الأعداءُ، تُسانِدُهم الشُّعوبُ المَغلوبةُ على أمرها، في التألُّبِ على الإمبراطوريَّة المُسْتَقوِية، فراحَتْ حدودُها تَتَقَلَّص، وبَلَغَ الخطرُ أرضَ الماءِ والكَلأِ نفسَها.
* ولمَّا أَدْرَكَ الشَّريفُ ما وَصَلَتْ إليه حالُ الجَيش من وَهَنٍ، وما يُحْدِقُ بالبلاد من مصيرٍ مُظلِم، قامَ - على طلبٍ من أعضاء مجلس السَّاسة، وبأملٍ شَعبيّ - بالانقِلاب على المُنصِّبِ نفسَه إمبراطورًا، وأَحْيا مجلسَ الحُكماء، وقادَ مَن بَقِي في جيشه في مُحاولةٍ يائسةٍ لإنقاذ الوطن.
* وإذِ اسْتَماتَ الشُّريفُ ورجالُه في التَّصَدِّي للأعداء، وطالَ حصارُ هؤلاء عاصمةَ الوادي الأخضر من دون جَدْوى، تَمَّ الاتِّفاقُ فالتَّوقيعُ على هُدنةٍ حَفِظَتْ استقلالَ الوطن، واعْتَرَفَتْ باستقلال غَيرِه من الأوطان المجاوِرَة، وأَمَلَتْ في أنْ يَعُمَّ الإخاءُ والتَّعاونُ شُعوبَ المنطقة.

ألتسْعَةُ السَّادسة

* وَجَدَ الشّريفُ نفسَه، مُجدَّدًا، وفي الخامِسَةِ والأربعينَ من العُمر، على رأس قَومٍ يَحْتاجون إعادةَ تنظيمٍ ورعايةً، فمالَ - على طلبٍ من شَعبه والمجلسَين - إلى القَبول بالمسؤوليَّة.
* وأَحاطَ الشَّريفُ نَفسَه، هذه المرَّة - وقد خَبَرَ الحُكمَ وصَقَلَتْه الأيَّام - بثِقَةٍ(12) راحَ يَعْمَلُ على اختِبارها للتأكُّد من إخلاصِها، لا لشخصِه، بل لأرضِ الوادي الأخضر وناسِه.
* وجاهَرَ الشَّريفُ شعبَه بواقِع الحَال المتردِّي بفِعْل الحُروب العَبَثيَّة الَّتي وَقعَتْ، وما نَتَجَ منها من مآسٍ اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّة، ودَعاه أنْ يَشُدَّ للأمرِ حِزامَه(13)، ويُضحِّيَ، ويَعْمَلَ يَدًا واحدةً على النُّهوض بالبلاد من كَبْوَتِها.
* وكانَ للشَّريفِ ما أَراد، فنَجَحَ وناسَه في إعادة تَنظيم المَملكة، إدارةً واقتِصادًا وضروريَّاتٍ اجتِماعيَّةً، واسْتَقامَتِ الأمورُ في سرعةٍ مُدهشةٍ، والفَضلُ لشعبٍ مُتَراصِّ الصُّفوف، مُؤمنٍ بقائدٍ-مِثال.
* وسَعى الشَّريفُ، بعدَما اطْمَئَنَّ إلى حاضر بلاده، لِبَثِّ روح الأَنسَنَة في شَعبه كي يَضْمَنَ المُستقبلَ، إذْ آمَنَ أنَّ الأَنسَنَةَ، وَحدَها، الكَفيلةُ بدَرْءِ أكبر نسبةٍ من المخاطر عن الشَّعب، وبغَيرِها، لا بدَّ للجَشَع أنْ يَظْهَرَ، فيَغِيضُ(14) الإخاءُ والتَّضامن، وتَطْفو(15) الأنانيةُ والانقسام، ويُعِيدُ التَّاريخُ نفسَه.
* ولم يَتَأَخَّرِ الشَّريفُ، بعدَما بَثَّ روحَ الأنسَنَة بين أفراد شَعبه، في العَمَل على تَوْسيع نِطاق تلك الأنسَنَة، وجَعْلِها كَونيَّةً، إذْ على دائرة النُّور، في عُرْفِه، أنْ تُوَسَّعَ فتَشْمَلَ الجَميعَ، وعلى السَّلام الدَّاخليِّ أنْ يُعَمَّم.
* إِلْتَفَتَ الشَّريفُ أكثرَ - بعدما حَصَّنَ بلادَه من الدَّاخل وفي وجه الخارج ما أَمْكَن - إلى أولاده، لاسيَّما وأنَّ أطفالَ الأمسِ أَمْسَوا شُبَّانًا؛ وأمَّا نَصيحتُه في مُستقبَلهم فكانَتْ: لا للشَّأن العامِّ الَّذي أُجْبِرَ على تَعاطِيه، نَعَم للثَّقافة والفُنون الَّتي مَنَعَتْه الأيَّامُ عنها.
* ولَمْ يَنْسَ الشَّريفُ شريكةَ حبِّه وحَياتِه، فخَصَّصَ لها لحظاتِ سعادةٍ وهَناء، لا بَلِ اسْتَرْجَعَ ما كانَ من شِعره فيها في التِّسْعَتَين، الثَّانيةِ والرَّابعة، وأَضافَ إلى شِعره ذاكَ شِعرًا.
* كما عادَ الشَّريفُ يَخْتَلِفُ(16)، أكثرَ فأكثر، إلى صَوْمَعَته، ويَخْلو بها مع نَفسه؛ ولَئِنْ كانَ مُطمَئِنًّا إلى عائلتَيه، الصُّغرى والكُبرى، فإنَّ شيئًا في داخله كان يَتَهَيَّأُ للانبِلاج.

ألتسْعَةُ السَّابعَة
* ظَلَّ الشَّريفُ - على الرَّغم من حَياةٍ مليئَةٍ مُشَوِّقَة - يَشْعُرُ بإحساسٍ غَريبٍ يَدْعوه إلى البَدء بخُطوَةٍ ما؛ وأمَّا خُطوتُه تلك فَلَمْ يُدرِكْها إلاَّ مع بلوغه الرَّابعةَ والخَمسين. فقد أَحَسَّ بواجِب الأنسَنَة يَحْمِلُه على التَّعرُّف إلى الحَياة الإنسانيَّة في أنحاء العالم المختلِفة، عَساهُ يَتَبَحَّرُ أكثرَ في الأنسَنَة الَّتي يَدْعو إليها.
* وكانَ أنْ تَخَلَّى الشَّريفُ مُجدَّدًا عن ألقابه، جميعِها، وانْسَحَبَ مرَّةً أخرى من الحَياة العامَّة، مُوصِيًا، في الدَّاخل كما مع الخارج، بثلاثةٍ: مَحبَّةٌ وانفِتاحٌ وتَعاضُد.
* وما اعْتَبَرَهُ الشَّريفُ انسِحابًا سهلاً على صَعيد الحَياة العامَّة، وَجَدَه صعبًا على صَعيد الحَياة الخاصَّة: فزوجُه نِصفُه، وأغلى ما لديه فِلَذُ كَبِدِه؛ لكنَّ ما كُتِبَ قد كُتِب، والعُمرُ أقصَرُ من أنْ يَصْرِفَه المَرْءُ على العمل، وأطوَلُ من أنْ يُنْفِقَه على اللَّهو.

* وغادَرَ الشَّريفُ ذاتَ فَجرٍ واديَه الأخضر، غادَرَه خُلسَةً لصعوبة الوَداع، ومَنعًا لِتَدارُكِ(17) قَومٍ، حاملاً عَصاهُ وما خَفَّ من حِملٍ ضروريٍّ  لحَياةٍ بدائيَّة، في جَولةٍ طويلةٍ في عالَم الزَّمان والمَكان.
* صَقَعَ(18) الشَّريفُ - مَشْيًا على القَدمَين في وَجه العموم، ومُمتَطِيًا دابَّةً أحيانًا - في أمكِنة زَمانه، مُتَّصِلاً بشعوبها بصِفة الإنسان العادي؛ وما زالَ كذلك حتَّى زادَ اختمارُه اختِمارًا وزَوَّدَ نَفسَه بما كانتْ تَحْتاجُ إليه من أنسَنَةٍ كَونيَّة.
* ولَقِيَ الشَّريفُ، في حَلِّه وتَرحالِه، الضِّيقَ والكثيرَ من الصِّعاب، جُلُّها من فِعل الطَّبيعة، وقليلُها من فِعل الإنسان، لكنَّه تَجاوَزَ هذا الضِّيقَ، وتلك الصِّعاب، بعَون الطَّبيعة نَفسِها وإنسانيَّةِ قِلَّةٍ من بَشَر.

* وانْتَهى الشَّريفُ، بعدَ طول سَفَر، إلى أنَّ الإنسانَ هوَ هوَ، في كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، يَتَنازَعُه الخَوْف، ولاسيَّما الخَوْفُ من المَوْت؛ وأنَّه، في مُواجهة الخَوْف، يُحاوِلُ، دائمًا وأبدًا، وفي مَسيرته الحَتميَّة نَحوَ المَوْت، إثباتَ وُجوده، والاحتياطَ لاستِمرار حَياته ودَرْء الصِّعاب عنها إنْ بالاكتِناز والتَّملُّك، أم بالسُّلطة والتَّسلُّط، أم بغَيرها...

* كما انْتَهى الشَّريفُ إلى أنَّ البَشَرَ يَتَنازَعون في مُتَع الدُّنيا، ويَتَقاتَلون لِخَوْف بعضٍ منهم من البعض الآخَر؛ وخَلَصَ إلى أنَّ العدالةَ في توزيع خَيرات الأرض - وإنْ شِبهَ مُستحيلةٍ - يَجِبُ أنْ تَكونَ المُبتَغَى لأنَّ فيها مُعظمَ الحُلول، وأنَّ على هذه العدالة أنْ تَقومَ، ليسَ فقط بين أبناء المُجتمع الواحد، بَل، أيضًا، بينَ أبناء المُجتمعات، جميعِها؛ وعلى الفارق بين أغنى أغنياء العالَم وأفقر فُقرائه، أيًّا كانَ هامًّا، ألاَّ يَحْرِمَ الفَقيرَ من ضَروراتٍ حَياتيَّةٍ أساسيَّة، لعلَّ المَأكلَ والمَشربَ والمَسكنَ والعِلمَ والطِّبابةَ من نَوافِلها؛ ولِلبَشَر، إلى هذا، أنْ يَتَمَتَّعوا، جميعُهم، بأكبر قَدرٍ من الحُرِّيَّات الشَّخصيَّة والعامَّة. كما خَلَصَ الشَّريفُ إلى أنَّ على دَعوته ناسَه، والنَّاسَ عامَّةً، إلى الأنسَنَة، أنْ تَتَمَحْوَرَ حَولَ الانعِتاق الذَّاتيِّ من خَوْفهم وما تَكَدَّسَ في أنفُسِهم من إِراثٍ(19) عَقيديَّةٍ واجتِماعيَّةٍ تُكَبِّلُ يَومَهم وغَدَهم كما تُكَبِّلُ علاقتَهم مع ذواتِهم ومع الآخرين؛ ولعلَّ فكرةَ الاندِماج بالطَّبيعة، عندَ المَمات، تُسَهِّلُ انعِتاقَ البَشَر من ذاكَ الخَوْف وتلك الإِراث.
* ووَجَدَ الشَّريفُ أنَّ اللهَ ما نَبَسَ بكلمةٍ، بَل قَوَّلَه البَشَرُ، ثمَّ فَسَّرَ بعضُهم أقوالَه بما يَتَناسَبُ ورغباتِه؛ كما رَأى أنَّ الإلهَ-القُدْرَةَ، إنْ تَبَيَّنَ أنَّه ظالِمٌ ومُبْغِض، وَجَبَتْ أنسَنَتُه، إذْ ما اللهُ إلَّمْ يَكُنْ والِدَ البَشَريَّة؟

ألتسْعَةُ الثامِنَة
* وَحَنَّ الشَّريفُ إلى أهله ودياره، وقد غَزا المَشيبُ شَعرَه، وفَعَلَتِ الشَّيخوخةُ فِعلَها في بُنيته، فقَفَلَ إلى واديه.
* ووَدَّ الشَّريفُ لَو يَدْخُلُ بلادَه، كما تَرَكَها، مُتَخفِّيًا، لكنَّ أخبارَ عودتِه سَبَقَتْه، إذْ كَشَفَ أحدُ الأتباع السِّرَّ والشَّيخُ، بَعدُ، في أرض السَّنابل(20).
* وزَحَفَتِ البلادُ تَسْتَقْبِلُ شَريفَها، وأَعْرَبَ شَعبٌ عن اغتِباطه بعودة مُحرِّرٍ ومَليكٍ ومُنقِذٍ اعْتُبِرَ، ولوقتٍ طويل، مُختَفِيًا أو مَيْتًا.
* وكانَ لقاءٌ، عِندَ أبواب العاصمة، ولا أرْوَع؛ ولم يَشَإِ الشَّيخُ أنْ يُقاطِعَ فرحةَ عائلةٍ وشَعبٍ أَحَبّ؛ لكنَّه، ما إنِ انْتَهَتْ أيَّامُ التَّهليل السَّبعة، حتَّى انْسَحَبَ إلى صَوْمَعَته.
* وهناك، في الصَّوْمَعَة، نَسَكَ الشَّريفُ من غَيرِ أنْ يَمْنَعَ عائلتَه وناسَه عنه، بَلْ حَدَّدَ للرَّاغبينَ أوقاتًا يَأْتونَه فيها، فيَسْأَلونَه، ويُجِيبُهم.
* وغَدَتْ صَوْمَعَةُ الشَّريفِ مَحَجَّةَ أهل أرض الماءِ والكَلأِ، لا بَلْ طارَ صِيتُ الشَّيخ في كلِّ أَوْبٍ وصَوْب، وراحَ النَّاسُ يَقْصُدونَه ويَسْمَعونَ كلامَه، وقد خَبَرَ الأيَّام وخَبَرَتْه، فأَفْصَحَ(21).
* وأمَّا وَقتُ الشَّريفِ الأطوَلُ فكانَ يَقْضِيه في التَّأمُّل والكتابة؛ وانْتَقَلَ قلمُه من الشِّعر إلى الفِكْر، فأَرْسى نَظرَّيةً، ظَنَّها لجَميع العصور، تَرْتَكِزُ على ثَلاثةٍ: أنسَنَةٌ خلال الحَياة، واندِماجٌ عندَ المَوْت، وانعِتاقٌ ذاتيٌّ في الحَياة، ومن المَوْت.
* ولَمْ يَشَإِ الشَّريفُ نَشْرَ نَظريَّته تلك بينَ أبناء زَمانه، إذْ أَدْرَكَ أنَّ وقتَها لَمْ يَحِنْ بَعدُ؛ ثمَّ قَرَّرَ التَّخَلِّي نِهائيًّا عن نَشْرها إذْ أَدْرَكَ أنَّ لكلِّ عَصرٍ نَظريَّتَه، وأنَّ مَفهومَ الانعِتاق نَفسَه، والَّذي يَدْعو إليه اليومَ - إلَّمْ يُجَدَّدْ بينَ حَيْنَةٍ وأخرى - قد يُكَبِّلُ نَفسَه بنفسِه غدًا؛ وهكذا، أَحْرَقَ الشَّريفُ ما كَتَب، مُكتَفِيًا بالانعِتاق شخصيًّا، مانِعًا عن نفسِه صِفةَ المُعْتِقِ غَيرَه، داعِيًا الجميعَ إلى الانعِتاق من الخَوْف من المَوْت، وكلَّ امْرِئٍ إلى الانعتِاق الشَّخصيِّ من مُكَبِّلاته، واضِعًا وَصيَّةً يُودِعُها شَعبَه لمَّا يَحِينُ الأَجَل.
* كما دَعا الشَّريفُ إلى احترام الطَّبيعة وعَدم إيذائها، مُشَرِّعًا مقاومتَها فقط عند الحِفاظ على الحَياة البَشَريَّة، من ضِمن الصِّراع العاديِّ بين المُكوِّنات.

ألتسْعَةُ التاسِعَة
* إِسْتَعْرَضَ الشَّريفُ - وكانَ جَسَدُه شاخَ، ونَفسُه تَعِبَتْ - حَياتَه بأمجادها ومآسيها، فاسْتَنْتَجَ أنَّ المَجدَ باطِلٌ وأنَّ المآسيَ إنَّما هي، في مُعظَمها، من صُنْع الإنسان؛ ووَجَدَ سيِّئاتِه، وإنْ قليلةً، تُساوي حَسناتِه؛ فالمُتَضادَّاتُ، في ما هو مُقْبِلٌ عليه، تَتَساوى.
* وإذْ قَرَنَ(22) بينَ حَياته المَليئَة، وتلك البَسيطةِ لغَيرِه، فَضَّلَ لو أنَّه عاشَ فلاَّحًا هانِئًا في زَمنٍ سِلميّ.
* وإذْ قَرَنَ بين حَياته الطَّويلة، وتلك القصيرةِ لغَيرِه، فَضَّلَ لو أنّه نَشَأَ طِفلاً وبَقِيَ ذاك الطِّفلَ، فطِفلُ(23) الحَياة، مهما تَأَخَّر، لا بُدَّ آتٍ.
* وحامَ المَوْتُ حَولَ صَوْمَعَة الشَّريف، لكنَّه، لمَّا أَدْرَكَ ما كانَتْ عليه حَياةُ الشَّيخ، أَعْرَضَ عنه.
* بَيدَ أنَّ الشَّريفَ، وقدْ أَدْرَكَ أنَّ تِسْعَتَه التَّاسِعَةَ هي تِسْعَتُه الأخيرة، نَدَهَ المَوْتَ ليُدْرِكَه، فلَبَّى المَوْتُ النِّداءَ؛ وتَمَّ ذلك في اليوم الحادي والثَّمانين، والأخيرِ، من العام الخامسِ والثَّلاثينَ بعدَ المئة للبُركان.
* وانْدَمَجَ الجَليلُ في الطَّبيعة، فتَفاعَلا تَفاعُلاً كَونِيًّا، تمامًا كما فعلَ مَن سَبَقَه وسيفعلُ مَن سيَتْبَعُه، وغَدا، بالاندِماج الكَونيّ، جُزءًا من الحَقيقة الَّتي طالَما سَعى لإدراكها.

* وكانَ الشَّريفُ أَغْمَضَ عينَيه لآخر مرَّة على بِكْرِ بِكْرِه يَدْخُلُ الصَّوْمَعَةَ؛ وقد حاوَلَ حامِلُ اسمَ جَدِّه إنقاذَ الجَليل، ولكنْ، عَبَثًا؛ فأَخَذَ الحَفيدُ من يَد الجَدِّ الرَّاحِلِ وَصيَّةً، وهَرَعَ إلى أهله وشَعب الوادي ناقِلاً الحَدَثَ الجَلَل.

* أَسْرَعَ أهلٌ وشعبٌ لإلقاء التَّحِيَّة الأخيرة على كَبير البلاد، وراحَ بعضٌ يَشْتَمُّ، في الصَّوْمَعَة، رائحةَ بَخورٍ، فيَدْعو إلى قداسة الشَّريف، وبعضٌ آخر يَشْهَدُ، وبأُمِّ العَين، فَيْضًا من الأنـوار يَنْبَعِثُ من الصَّوْمَعَة نفسِها، فيَدْعو إلى الدَّعوة بِاسم النَّبيِّ الجَديد.
* وأمَّا بِكْرُ البِكْرِ ففَضَّ وَصيَّةَ جَدِّه، وتَلا ما جاءَ فيها على مَسمَع الحُضور:
"حَياتي وَصيَّتي، فاقْرَأُوها واعْتَبِروا، واذْكُروا، دائمًا وأبدًا، أنَّ أيًّا كانَ ليسَ أفضلَ من أيٍّ منكم، كما أنَّ أيًّا منكم ليسَ أفضلَ من أيٍّ كان. وما أنا سِوى إنسانٍ عاديٍّ قد يَكونُ أوَّلَ المُنْعَتِقين والمُنْدَمِجين فِكْرًا؛ ورَجائي أنْ لا أكونَ آخِرَهم، مع العِلم أنِّي مُطمَئِنٌ إلى كَوني لَسْتُ لا أوَّلَ المُنْدَمِجين فِعْلاً ولا آخِرَهُم.
"وأمَّا يومُ رَحيلي فَلْيَكُنْ عيدَ الاندِماج في الحَقيقة والانعِتاق الكَونيّ؛ وأمَّا ضَريحي، فَلْيَكُنْ في صَوْمَعَتي نَفسِها، بَسيطًا، وليُكْتَبْ على شاهِدَتِه: هنا يَرْقُدُ إنسانٌ من الوادي الأخضر؛ وأمَّا صَوْمَعَتي، فَلْيُتْرَكْ بابُها، كالعادة، مَفتوحًا، ولتُتْرَكْ، هي، على حالها، من غَيرِ تَرميمٍ أو تَحسينٍ، حتَّى إذا شاءَتِ الطَّبيعةُ أنْ تَندثرَ بما فيها، فَلْتَنْدَثِرْ.
"أحبَّائي، إِفْرَحوا لي، فمَهما اتَّسَعَ المَكانُ، فإنَّ اللاَّمَكانَ أوْسَع، ومَهما طالَ الزَّمانُ، فإنَّ اللاَّزَمانَ أطوَل، وأيًّا تَكُنْ قُدْرَةُ المَحسوس، فإنَّ اللاَّمَحسوسَ أقْدَر، وأيًّا يَكُنْ مَدى الوُجُود، فإنَّ اللاَّوُجُودَ أمْدَد."



  ألحواشي:
(1) إذْ لا زمانَ ولا مكانَ في عُرْف الطَّبيعة، كما على أثَرِ زوال المُتَضادَّات.
(2) أو المَكَزانُ، والكلمتان مَنحوتَتان من قِبَل المؤلِّف وتَعنِيان اندِماجَ الزَّمان والمكان.
(3) ألرَّحِم، وهو مستَودعُ الجَنين.
(4) أليومُ التَّاسعُ من الأسبوع.
(5) يمتدُّ هذا الفصلُ لواحدٍ وثمانينَ يومًا.
(6) تقويمٌ يَنْطَلِقُ من تاريخ انفجار بُركان "حاما" الَّذي قَضى على أعداء الأشراف وأَمَدَّ سهولَهم بالأتربة الخصبة.
(7) أي في خَيْر النَّاس كَنَفًا ورعايةً.
(8) أي الأزليَّة-الأبديَّة، أو السَّرمَديَّة، والكلمة من نَحت المؤلِّف.
(9) ألشَّرُّ والبَلاء.
(10) شريفُ قومه وكبيرُهم.
(11) ناصِحُ قومه.
(12) جماعةٌ يُعْتَمَدُ عليها في الأقوال والأفعال.
(13) أي أنْ يَسْتَعِدَّ له.
(14) يَذْهَبُ في الأرض ويَغِيب.
(15) تَقْتُلُ.
(16) يَتَرَدَّدُ.
(17) تَلاحُق.
(18) ذَهَبَ.
(19) جَمْعُ "إِرث".
(20) بلادٌ إلى الجنوب من الوادي الأخضر.
(21) بيَّنَ رأيَه ولخَّصَه.
(22) جَمَعَ.
(23) ألشَّمسُ عندَ الغروب.
من "المُنعَتِق" - الجزء الثَّاني
©الحقوق محفوظة - دار نعمان للثقافة
  ناجي نعمان (لبنان) (2009-09-16)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

حياٌة أدبًا

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia